الأحد، 11 يناير 2009

طائرات من ورق


في البدء كانت نزوة عابرة..
لمعت الفكرة في رأسه بعد أن سمع حديث صديق له عن الجهاد وثوابه، صور له الجنة بحكاياته، حدثه عن درجة الكفر الكبيرة التي وصل إليها المجتمع الجزائري، حدثه عن الانحلال الأخلاقي الذي يتجاوز كل التصورات، حدثه عن بطولات أسطورية للمجاهدين في سبيل الله في أفغانستان والشيشان، حدثه عن الإخوان المسلمين في مصر، كلمه عن إقامة الحد واستدل بآيات وأحاديث من الكتاب والسنة الشريفة. كل ذلك جعله يعود إلى بيته وقد عكرت الفكرة صفاء ذهنه. ثم تناسى الأمر كله فلم يخطر له ببال إلا في لحظات نادرة من لحظات الوحدة والفراغ، عند ذلك كان يخيل إليه أن الفكرة رابضة في مكان ما وأنها تتحين فرصة للاستحواذ على تفكيره ومشاعره.
أتم دراسته الجامعية وانتظر الوظيفة التي لم تأت، وتسربت قطرات من الضجر إلى زوايا نفسه، وعاوده الشعور بالظلم والفراغ، فخيل إليه أن الفكرة تتمطى لتستيقظ وتستحوذ عليه، ففكر جديا في الالتحاق بالمجموعات الإرهابية في الجبل.
وصار الأمر نفسه طموحا، فيه وجد الانتقام وفيه سبيل إلى معاقبة ظالميه..
فبعد أن طرق كل الأبواب واستخرج كل الأوراق وجمع ما استطاع من نقود، في سبيل الوظيفة دفع النفيس.. عز عليه ضياع كل سنوات الدراسة هدرا، سأل كل المجربين الذين سبقوه في هذا الأمر، لم تفلح وسائله، يأس ووجد أن طريق صديقه أجدى. اقتلع شخصه من جذوره، ربى لحية كثيفة وسمى نفسه "أبو جهاد" بدل أرسلان المهدي الذي عرف به دهرا، ابتاع بندقية من أحد الفلاحين واتصل بصديقه ضاربا بعرض الحائط دموع اقرب الناس إليه:
أليس من تحاربونهم إخوانكم ومسلمون مثلكم؟
بل كفار ملحدون ونحن سنقيم عليهم الحد.
من سلك هذا الطريق صعب عليه الرجوع منه.
الأصعب أن لا أقيم الحد فاسأل يوم القيامة.
ومن نصبك لتقوم بذلك؟
الساكت عن الحق شيطان اخرس. وأنا لست بضعيف أيضا حتى اسكت عن الحق.
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمن غير المسلمين الذين يجاورونه، ولم يقتلهم أو يحمل عليهم بليل.
لست هنا لأجادل في الدين، انتم لا تعرفون سوى القشور وتتمسكون بها أنتم أشبه بالنصارى.
لماذا تكفرنا؟ ومن أنت لتفعل ذلك.. ستندم حين لا ينفع الندم.
ستمضي الأمور على خير بإذن الله مادمنا سنقيم حده على كل الكفار الفجار في هذه المنطقة، وعندما نستولي على الحكم، نقيمه على كل الشعب، ثم أليس كل مكتوب على الجبين تراه العين؟

تجلى له المكان آية في الفوضى والوسخ والتوحش، رأى خيمتان أو ثلاث منصوبات على أغصان الأشجار، وتحت الشجرة رأس خروف وأمعاؤه، وقد تغطت بالذباب وفاحت منها الروائح، في وسط المكان آثار لهب أصبح رمادا، وبقايا عظام وخبز، صفعه إغراء الحقيقة القاسي، أحس برغبة شديدة في التقيؤ، لم يدر أن الأمور متدنية إلى هذا السوء، هنا استيقظ أرسلان فيه ليصفعه صفعة ثانية:
ماذا تفعل هنا؟ هل أنت مجنون، مالك وهؤلاء؟ انظر أين يعيشون، انظر كيف يعيشون؟ هل هؤلاء هم الذين سيقيمون حدود الله؟ هل هؤلاء هم خلفاء الله في الأرض؟ كلا يا صديقي.. أفق قبل فوات الأوان.. نهره أبو جهاد وكتم أنفاسه: صه؟ يا بقايا النصارى؟ إنهم مجاهدون.. لا يعيشون في النعيم زهدا في الحياة الدنيا، لان الآخرة خير وأبقى، أكمل ما أنت ماض فيه، سوف تحكمون هذا الشعب الفاسق في يوم ما وتنسون كل ما عانيتموه في سبيل ذلك.. لم يفق من صراعاته إلا على صوت صديقه عمار:
هيا يا أبا جهاد أذن لك الأمير بالمقابلة، أبشر.. لم يصدر عنه أي رد فعل، كان كالتائه المنقاد بل المقاد، أمسك بيده صديقه ودخلا خيمة الأمير، وهنا تلقى صفعة ثالثة. رأى شخصا بدينا، كثيف الشعر واللحية، أشعثهما، ثيابه لا لون لها بسبب ما تراكم عليها من الأوساخ، كان يجلس وسط الخيمة وعلى يساره شخص ضعيف البنية أصفر اللون، خبيث الملامح، ناحل اللحية، لم يغب عنه أنه سارع بتغطية قارورة مشروب روحي، كانت بينهما، فسلم عليهما وبادر الأمير موجها كلامه إلى صديقه عمار:
أهلا بك يا أبا عمار، كيف حال المدينة؟
غارقة في كفرها تنتظر نجدة من السماء تنتشلها من ليلها الذي طال أمده.
نصر قريب إن شاء الله، أهذا هو المتطوع الجديد؟
نعم.. وقد استبدل اسم النصارى بعد أن هداه الله، وهو الآن يدعى"أبو جهاد"
ونعم الاسم يا بني، الحمد لله الذي هداك لتترك دنيا الكفر، وتجاهد في سبيل إحلال إرادة الله، سنضع أيدينا في أيدى بعض لنعيد الهدى إلى مجتمعنا الذى غرق في الجهالة والبدع. أرى معك سلاحا، هاته.. وأخذ منه السلاح وراح يقلبه بين يديه، ثم قلب شفته السفلى معلنا عن عدم رضاه:
هذا لا ينفع، رصاصتان لا تفيدان بشيء، خاصة إذا لم تصب الهدف من الرمية الأولى.. ثم ملتفتا وراءه:
خذ هذه، انفع وأجدى.. أعطاه كلاشنكوف يلمع في نصلها الموت:
ما رأيك ؟ لم يعرف ماذا يقول انه يسير نحو الهاوية مسلوب الإرادة. وتحت خشية المكان ومن فيه قال بصوت لا يكاد يسمع:
فعلا انفع وأجدى.. تساءل في نفسه أليس المفروض أن نختار أشخاصا مدانين بعينهم ثم نأتي بهم لنحاكمهم ونقيم عليهم الحد؟ ود لو يقول ذلك لأميره، لكن تسربت إلى حنايا نفسه قطرات بل جرعات خوف، آثر على إثرها السكوت حتى يحين الوقت المناسب. التفت الأمير إلى الشخص الذي يجالسه قائلا:
قم يا أبا مصعب وخذ أخوك "أبو جهاد" لتشرح له بعض ما خفي عليه من الأمور، وكذا توجيهه وتدريبه على سلاحه.. فقام أبو مصعب بخفة لا تناسب ضعف بنيته وتأبط ذراعه وخرجا، وقد بدا يحس أنه يغرق في الوحل شيئا فشيئا.

اختارا مكانا مرتفعا ، يطل على المدينة لازال يراوده بعض الأمل في صحة ما أقدم عليه، لكنه يجهل ما سيقدم عليه، لذا التفت إلى أبو مصعب فوجده يمعن ويدقق في السلاح، اقترب منه مستفسرا عن ما سيقومون به، فابتسم مرحبا بالحديث:
هذه الليلة قرر أميرنا - حفظه الله – أن نفجر محطة بنزين ونغنم كل ما يملكه صاحبها.. ثم عاد إلى ما كان يفعله غير عابئ بما خلفه في نفس الفتى.. هالته المفاجأة حتى أبكمته، لكنه سرعان من استجمع قواه مقررا هتك ستار الخوف ليفسر له ما غاب عنه، فقال:
أليست رسالتنا أن نقيم الحد على الكفار الفجار في هذا المجتمع لنعيد فرض تعاليم الإسلام بين أفراده، أنا لا افهم ما دخل تفجير المحطة ومبادئنا؟ فانفجر أبو مصعب ضاحكا غير أنه تمالك نفسه أمام جدية "أبي جهاد" قال:
هذا المجتمع كله كافر وكل مالهم فهو غنائم لنا حتى نساؤهم وبناتهم هن سبايا لنا ،هل فهمت كل المجتمع دون استثناء.. لم يعد هناك مكان ليقال أي شيء، إذن لا أساس للوازع الديني في هذه الحرب، ليست بدرا ولا أحد.. هذه حرب العصابات، أي دناءة هذه؟؟ لا إقامة حد ولا إعلاء كلمة الله، بل هو نهب وتخريب واغتصاب، صحيح أن الستار ديني، لكن خلفه يوجد السراب، الهباء المنثور، تلقى صفعة رابعة لكن ليس من أرسلان هذه المرة، إنها ممن وكل بتعليمه مبادئ الإجرام المحلل، لكن أرسلان ما لبث أن استغل الفرصة لينهره وينذره:
ماذا تنتظر يا صديقي إنها الهاوية، فلتقفز لأنه لا مجال للعودة الآن، في أسفل الجبل قد يغفرون لك زلتك، ويأذنون لك بالعودة، لكن هؤلاء غير مسموح لك بالخطأ معهم. ماذا ستفعل؟ لم يعرف ولم يعلم ماذا يفعل أو ماذا يقول، اختفى أبو جهاد في زاوية في نفسه، مطاطئا الرأس خجلا من تسرعه، لكن سرعان ما وقف وقد بدا مقررا إتمام السير على هذا الدرب الذي اختاره مرغما، أليست السلطة في هذا البلد هي التي حرمته أن يكون مواطنا محترما محتفظا بكرامته كانسان؟ يأكل من عرق جبينه ويمارس إنسانيته؟ إذن فلتصمت بلابل العذاب الخفي، وليمض.. لن يكون الأمر أسوا مما هو عليه الآن ولا من قبل، وقام يلحق أبو مصعب الذي سبقه في النزول من التلة ليستقر بالخيمة الثانية، أعطاه جلد خروف ليستريح عليه، فأسلم جسده المنهك عليه وقد توسط صندوقين خشبيين لم يعلم أنهما مليئان بالات الموت والدمار، توسد راحته وغرق في نوم متقطع تتخلله رؤى مؤذية .

هاله منظر الانفجار الهائل، لقد أصبح شاهدا على أعمالهم، بل أصبح شريكا فيها، انه الآن يعد إرهابيا، أحس بحرقة في حلقه، شعر بالخجل من نفسه كمن جرد من ثيابه على حين غرة، استيقظت البلابل مرة أخرى، ضحك منه ارسلان حتى كاد يغمى عليه:
أهذه إقامة الحد؟ أهذا هو بث هدى الله بين الناس؟ أم هذا هو النور الذي ينتشل الناس من الليل السرمد؟ لا من هذه الناحية أنت محق فقد أضاء المكان لكن هل أضاء القلوب التي في الصدور؟ انتم قطاع طرق هذا هو فعلا ما انتم عليه، قطاع طرق، مدمرون، لا تختلفون كثيرا عن بني صهيون، لكنهم أشرف منكم، على الأقل هم لا يفعلون ذلك مع إخوانهم. أحس أنه أصبح دودة ترتع في القذارة، تلطخت يديه بالدماء، ولا سبيل لتنظيفها ولو استعمل الصابون، الآن انه يستحق لقب مجرم. لكن أبو جهاد صرخ:
لا لست مجرما لقد خدعت.. الآن فات الأوان يا صديقي.. انتبه من تفكيره على صوت أبي مصعب يناديه:
هيا يا أبو جهاد لنصعد إلى مخبأنا قبل أن يأتي جنود الطاغوت وعبيده.. آه.. لم تعودوا مجرمين فقط لقد انحدرتم إلى أدنى من ذلك، أصبحتم فئران تفسد وتهرب. لم يحس بالمسافة رغم طول الطريق ووعورته، أحس برأسه يغلي رغم البرودة الشديدة، سمع ارسلان يقول لأبي جهاد:
هل أنت سعيد الآن؟ ليت اللعنة تلحقك وحدك لكن أقرب الناس إليك سيتأذون، أنت جبان وأحمق. فأغلق أذنيه وصرخ:
اتركني لست مجرما لست إرهابيا؟ أنا مظلوم، أنا مخدوع؟ التفت إليه أبو مصعب:
ماذا حل بك يا أبو جهاد، ما بك؟
لا أدرى لكني غير راض عما قمنا به، هل هذا هو الطريق الصواب؟ لقد حدنا نحن عن الصواب.
– تعال نتكلم في الداخل.. وادخله الخيمة ثم سأله:
ألم نتكلم في البداية؟ ألم توافق على كل مبادئنا؟
اعتقدت أننا بصدد أداء رسالة، معاقبة الكفار ونشر الدعوة.
– وهذا ما نفعله حقا..
– بالقتل والتفجير؟؟ لمعت عينا أبو مصعب، قال:
أنت غير راض عما فعلناه؟
نعم، ليست هذه هي الطريقة التي تحل المشكلة، بل قد تزيدها تعقيدا.
– إذن استرح قليلا سأعود إليك ببعض الماء والخبز. خرج أبو مصعب من الخيمة ودخل خيمة الأمير، بينما أحس أبو جهاد ببعض الراحة بعد أن نفس عن قلبه بقول ما يراه صوابا حتى أرسلان سكت عنه قليلا، واستغرب حين بدا يسترد بعض ذكرياته الجميلة في المدينة، إذ دخل عليه أبو مصعب وبادره:
لقد أخبرت الأمير برأيك وهو يرى أنه إذا كنت غير قادر على مواصلة المشوار معنا بإمكانك العودة إلى المدينة. أحس بالفرحة وكاد يقفز، وقد عجب لذلك الإحساس، لقد كان هناك وهو من اختار المجيء هنا رغم محاولات الآخرين منعه، انه الآن يفرح، غريب أمر الإنسان عندما يكون الشيء بين يديه لا يعرف قيمته حتى يضيع منه، سيعود الآن وينتظر الوظيفة أو يقوم بمشروع صغير أي شيء أحسن من مكوثه هنا، شكر أبو مصعب مودعا:
شكرا لك يا صديقي على كل ما فعلته من أجلي، ورغم كل شيء أتمنى لكم التوفيق في فعل الصواب.. وشد على يده.
لا باس وددنا لو بقيت في صفوفنا وتتم معنا المشوار، في أمان الله.. ثم خرج من الخيمة قاصدا الطريق العام.. شعر بألم حاد، التفت فرأى الخنجر في يد أبي مصعب يقطر دما، قال له وهو يغوص في ظلمة الموت:
لم خدعتني يا أبا مصعب؟؟
يا صاحبي.. نحن لا نثق بأحد، نزولك يعني هلاكنا..
وقع على الأرض.. نظر إلى السماء وابتسم.. نعم انتهى العذاب.. انتهى الصراع.. شعر بالراحة رغم الألم.. شعر بالسعادة وهو يستقبل الموت.. شعر بالطمأنينة بعد أن انتهت رحلة البحث عن طائرات الورق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق