إهداء: إلى روح أول شهيد جزائري بالمقصلة، إلى الشهيد البطل احمد زهانة( المدعو: زبانة)
على الحيطان القذرة رسم قلبه حبا لها… تساءل كيف لهؤلاء المجانين أن يعتقدوا أنهم أبعدوه عنها عندما أسروه؟ ألا يعلمون أن حبها متمكن من قلبه وعقله ونفسه حتى أضحى لا يتسع لأي شيء آخر، أجمل شيء في الكون أن يحب الإنسان وان يخلص في حبه… و حتى إن عذب من اجل من يحب فهو يستلذ عذابه و يستمتع به… لم يتعلم في حياته كلها إلا أن يحبها… منذ تعلم الحب أحبها… منذ تعلم الكتابة كتب اسمها و عبارات الشوق لها… لم يعلمه احد ذلك لكنه نوع من الفطرة ولد عليها… نوع من الوباء يصيب كل من يولد على ترابها…
الجزائر… أليس اسما جميلا نادرا لا يمكن أن يكون مثلها شيء آخر… هي مهد صباه ومرتع شبابه… أحس بوخز في الجرح الذي لم يلتئم بعد، نظر إلى الضمادة فوجد بها قطرات من الدم، لم يسمح له الطغاة أن يتم علاجه في المستشفى، كانت خشيتهم من أن يتمكن من الهرب من المستشفى كبيرة، لم يكن ليقبض عليه لولا تلك الوشاية الكريهة، رغم ذلك يشعر بالفخر لان القبض عليه لم يكن سهلا، فقد كبد العدو الفرنسي خسائر فادحة، لكن في اللحظة التي خذله فيها القدر، انتهت منه الذخيرة و بقيت بحوزته رصاصة واحدة قرر بلا أدنى تردد أن يصيب بها قائدهم، لكن سبقت إليه رصاصة من جندي على اليمين لم يره، أحس بقطعة من جحيم تخترق جسده، فغرق في غيبوبة صماء و كانت أعالي جبال وهران آخر ما رأت عيناه… ليفتحهما على صوت القائد يأمر الطبيب بان ينقذ حياته بأية طريقة لأنهم يريدونه حيا.. مع أول استفاقة له نقل على الفور إلى سجن بربروس الرهيب بالعاصمة، هنا… حيث يجلس بانتظار ما تقرره محكمة العدو، هو لا ينتظر منها الكثير لأنه في نظرها خارج عن القانون، لا يؤلمه شيء اشد من أن صفوف المجاهدين نقصت واحدا، الآن وبعد عامين من انطلاق ثورة نوفمبر المظفرة، الجزائر بحاجة إلى كل مخلصيها، و هو يعتبرها فرصته الوحيدة ليعبر لها عن حبه وإخلاصه لها، واستعداده الكبير لان يضحي بنفسه ودمه و أغلى ما يملك من اجلها، ليس وحده من يشعر هذا الشعور المقدس، هناك من يشاطره حلم الفوز بالتضحية، انه يراهم يكابدون اشد أنواع التعذيب و يستلذونه من اجلها، أحس أن الزنزانة تطبق على أنفاسه فلا يستطيع التنفس، نظر من خلال نافذة صغيرة في أعلى الجدار، شاهد رقعة زرقاء من سمائها الصافية أحس أنها تبتسم له شاكرة بطولته، أحس أنها تشجعه على الاستمرار، أحس أنها تبادله الحب، سمعها تهمس في أذنه:_ لا تخف أنا معك؛ فزاد هياما بها، ألا يعلم هؤلاء الأغبياء أن الأرواح لا تحبس بين الجدران؟ أن المشاعر لا تعبأ بالقضبان؟ أحس أن قلبه خرج من صدره و ذهب إلى هناك حيث تطير الطيور بحرية و تجري الأنهار وتزهو الأزهار غير عابئة باستبداد الغاصبين الذين يزرعون الموت في كل مكان يمرون به.
نزل بنظره من النافذة إلى الزنزانة القذرة، الشبيهة بالقبر، كيف لا و هدفهم قبر الثورة هنا، لن ينجحوا فعندما يقتلون أو يسجنون ثائرا يولد عشرة، إن لم تخرجوا منها اليوم، فستخرجون غدا، انتشله من أفكاره البعيدة زميله بالسجن:
زبانة ، زبانة؟ وقع أقدام آتية نحونا.
تسارعت دقات قلبه، قضى في هذا السجن البغيض قرابة العامين و لم يخفه تعذيب الجلادين، و لم يثنه عن عزمه في الاستمرار شيء، لماذا يدق قلبه الآن؟ أحس أن لهذه الأقدام وقع مختلف، أتراها النهاية؟ أطل زميله من ثقب الباب:
إنهم ثلاثة جنود يحمل احدهم و يبدو قائدهم ورقة.
اليوم هو التاسع عشر من شهر جوان، إنه اليوم الذي تتم فيه محاكمته، هو متأكد الآن أن مصيره قرر في تلك الورقة، فتح باب الزنزانة مسببا ضجة كبيرة، دخل الجنديان، ثم دخل قائدهم، أمره أحد الجنديين بالوقوف، نظر إليه القائد نظرة خالية من أي معنى:
باسم الشعب الفرنسي: بعد الأعمال الإجرامية التي قمت بها ضد فرنسا، حكمت عليك محكمة الجنايات ب… الإعدام بالمقصلة، و سينفذ فيك الحكم عند مغيب الشمس.
لم يسمع موعد تنفيذ الحكم، توقف عن التفكير، الحكم نهائي لا استئناف فيه، رغم انه غيابي، لكن من يراقب شرعية ما يفعلون؟ ليس حزنا ما يشعر لكن نوع من النقمة، ضرب يده بالحائط فخيل إلى زميله انه حطمها، قام إليه و ربت على كتفه:
لا اعرف ما أقول… لكن تشجع يا أخي، قد تحدث معجزة و لا ينفذ الحكم.
ابتسم ساخرا:
ألا تعلم أن عصر المعجزات قد ولى، لست خائفا من الموت فقد رحبت به منذ اخترت طريق الجهاد المقدس، لكن اشد ما يؤلمني أن صفوف المجاهدين نقصت واحدا، لكم تمنيت أن استشهد عند قدميها أو في حضنها على ترابها وأنا احمل رايتها عاليا، أتعلم؟… أسرفت في الحلم حتى بدا حقيقة أكاد ألمسها،… حلمت أنني عشت حتى رأيت الغاصبين يطردون منها ويغادرونها، حلمت أنني ارقص و انشد النشيد الوطني في يوم استقلالها، حلمت أنني استنشق عطر الحرية، أكاد ألمس كل ذلك و كأنه حقيقة… هل تصدقني؟ ابتلع دموعه و أجابه بصوت مبحوح:
أصدقك يا بطل، ثق أن الجزائر لن تنسى ما فعلته لأجلها، وأنها فخورة بك، وان التاريخ سيكون شاهدا على كل شيء… فجأة سمع أقدام الجلادين آتية صوبه، لتنفذ ما أمرت به محكمة الظلم الجائرة، ارتعشت أوصاله… إنها النهاية… احتضنه رفيق دربه بقوة و بكى بصوت عال، جذبه الجنديان بقوة، صرخ:
أوصيك بالجزائر.. أمانة في عنقي يا بطل الجزائر…
لم تستطع رجلاه أن تحملانه، امسكه الجنديين من كتفيه و جراه إلى حيث النهاية الأليمة، صرخ مرة أخرى:
الله اكبر. الله اكبر. تحيا الجزائر. تحيا الجزائر.
و كأنما بث الحماس في كل أسرى سجن بربروس الرهيب من أبطال الجزائر فردوا عليه:
تحيا الجزائر، تحيا الجزائر.
و تقدم به الجلادين إلى المصطبة التي وضعت عليها آلة الموت، رفع رأسه إليها فرأى الموت يلمع من شفرتها الحادة.
اشهد أن لا اله إلا الله و اشهد أن محمدا رسول الله.
اجتاح جسده شلل تام، فلم يعد يستطيع مقاومة، حملته الأيادي الآثمة المخضبة بدماء الأبرياء من أبناء هذا الشعب ووضعت رقبته تحت الشفرة الحادة بالضبط، حالت بينه و بين الموت لحظات رأى نفسه فيها يرتع بحرية على أديم هذه الأرض، هذه الأرض التي ستضمه بين أحضانها بعد لحظات، هذه الأرض التي عشقها و لم يعرف سوى أن يعشقها، أعطيت إشارة الموت، فنزلت المقصلة على رقبته و فصلت رأسه الطاهر عن جسده الطاهر…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق